فصل: تفسير الآيات رقم (1- 8)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 58‏]‏

‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏ فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏ فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏ وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

ولما أرشد السياق إلى أن التقدير‏:‏ أفهذا الذي جاء يسلبنا عبيدنا بني إسرائيل خير عندكم مني‏؟‏ نسق عليه قوله‏:‏ ‏{‏أم أنا خير‏}‏ مع ما وصفت لكم من ضخامتي وما لي من القدرة على إجراء المياه التي بها حياة كل شيء، ونقل ابن الجوزي وغيره من المفسرين عن سيبويه وأستاذه الخليل أنها معادلة لتقريرهم بالإبصار، فكأنه قال‏:‏ أفلا تبصرون ما ذكرتكم به فترون لعدم إبصاركم أنه خير مني أم أنا خير منه لأنكم لا تبصرون، وكان هو أحق بهذه النصيحة منهم فإنه أراهم الطريق الواضحة إلى الضلال والموصلة إليه من غير مشقة ولا تعب بقوله‏:‏ أفلا تبصرون أم أنتم بصراء، فيكون ذلك احتباكاً تقديره‏:‏ أفلا تبصرون ما نبهتكم عليه، فذكر الإبصار أولاً دليلاً على حذف مثلها ثانياً والخيرية ثانياً دليلاً على حذف مثلها أولاً، وحقر من عظمة الآتي له بتلك الآيات صلى الله عليه وسلم لئلا يسرع الناس إلى اتباعه لأن آياته- لكونها من عند الله- كالشمس بهجة وعلواً وشهرة فقال‏:‏ ‏{‏من هذا‏}‏ فكنى بإشارة القريب عن تحقيره، ثم وصفه بما يبين مراده فقال‏:‏ ‏{‏الذي هو مهين‏}‏ أي ضعيف حقير قليل ذليل، لأنه يتعاطى أموره بنفسه، وليس له ملك ولا قوة يجري بها نهراً ولا ينفذ بها أمراً ‏{‏ولا يكاد يبين‏}‏ أي لا يقرب من أن يعرب عن معنىً من المعاني لما في لسانه من الحبسة فلا هو قادر في نفسه ولا له قوة بلسانه على تصريف المعاني وتنويع البيان يستجلب القلوب ويدهش الألباب فيكثر أتباعه ويضخم أمره، وقد كذب في جميع قوله، فقد كان موسى عليه الصلاة والسالم أبلغ أهل زمانه قولاً وفعلاً بتقدير الله الذي أرسله له وأمره إياه ولكن الخبيث أسند هذا إلى ما بقي في لسانه من الحبسة تخييلاً لأتباعه لأن موسى عليه الصلاة والسلام ما دعا بإزالة حبسته بل بعقدة منها‏.‏

ولما كان عند فرعون وعند من كان مثله مطموس البصيرة فاقد الفهم وقوفاً مع الوهم أن القرب من الملوك والغلبة على الأمور لا تكون إلا بكثرة الأعراض الدنيوية، والتحلي بحلي الملوك، سبب عن ادعائه لرسالته عن ملك الملوك اللازمة للقرب منه قوله‏:‏ ‏{‏فلولا‏}‏ ولما كانت الكرامات والحبى والخلع تلقى على المكرم بها إلقاء، عبر به فقال‏:‏ ‏{‏ألقي‏}‏ أي من أيّ ملق كان ‏{‏عليه‏}‏ من عند مرسله الذي يدعي أنه الملك بالحقيقة ‏{‏أسورة‏}‏ جمع أسورة- قاله الزجاج، وصرف لصيرورته على وزن المفرد نحو علانية وكراهية، والسوار‏:‏ ما يوضع في العصم من الحلية ‏{‏من ذهب‏}‏ ليكون ذلك أمارة على صدق صحة دعواه كما نفعل نحن عند إنعامنا على أحد من عبيدنا بالإرسال إلى ناحية من النواحي لمهم من المهمات ‏{‏أو جاء معه‏}‏ أي صحبته عندما أتى إلينا بهذا النبأ الجسيم والملم العظيم ‏{‏الملائكة‏}‏ أي هذا النوع، وأشار إلى كثرتهم بما بين من الحال بقوله‏:‏ ‏{‏مقترنين‏}‏ أي يقارن بعضهم بعضاً بحيث يملؤون الفضاء ويكونون في غاية القرب منه بحيث يكون مقارناً لهم ليجاب إلى هذا الأمر الذي جاء يطلبه كما نفعل نحن إذا أرسلنا رسولاً إلى أمر يحتاج إلى دفاع وخصام ونزاع، فكان حاصل أمره كما ترى أنه تعزز بإجراء المياه، فأهلكه الله بها إيماء إلى أن من تعزز بشيء دون الله أهلكه الله به، واستصغر موسى عليه الصلاة والسلام وعابه بالفقر والغي فسلطه إشارة إلى أنه ما استصغر أحد شيئاً إلا غلبه- أفاده القشيري‏.‏

ولما كان كلامه هذا واضعاً له عند من تأمل لا رافعاً، وكان قد مشى على أتباعه لأنهم مع المظنة دون المنة، فهم أذل شيء لمن ثبتت له رئاسته دنيوية وإن صار تراباً، وأعصى شيء على من لم تفقه له الناس وإن فعل الأفاعيل العظام، تشوف السامع إلى ما يتأثر عنه فقال‏:‏ ‏{‏فاستخف‏}‏ أي بسبب هذه الخدع التي سحرهم بها في هذا الكلام الذي هو في الحقيقة محقر له موهن لأمره قاصم لملكه عند من له لب ‏{‏قومه‏}‏ الذين لهم قوة عظيمة، فحملهم بغروره على ما كانوا مهيئين له في خفة الحلم ‏{‏فأطاعوه‏}‏ بأن أقروا بملكه وأذعنوا لضخامته واعترفوا بربوبيته وردوا أمر موسى عليه الصلاة والسلام‏.‏

ولما كان كلامه كما مضى أعظم موهن لأمره وهو منقوض على تقدير متانته بأن موسى صلى الله عليه وسلم على نبينا وعليه وسلم أتى بما يغني عما قاله من الأساورة وظهور الملائكة بأنه مهما هددهم فعله ومهما طلبوه منه أجابهم إليه، فلم يكن للقبط داع إلى طاعة فرعون بعدما رأوا من الآيات إلا المشاكلة في خباثة الأرواح، علل ذلك سبحانه بقوله مؤكداً لما يناسب أحوالهم فيرتضي أفعالهم وهم الأكثر‏:‏ ‏{‏إنهم كانوا‏}‏ أي بما في جبلاتهم من الشر والنفاق لأنهم كانوا ‏{‏قوماً‏}‏ أي عندهم قوة شكائم توجب لهم الشماخة إلا عند من يقهرهم بما يألفون من أسباب الدنيا ‏{‏فاسقين‏}‏ أي عريقين في الخروج عن طاعة الله إلى معصية، قد صار لهم ذلك خلقاً ثانياً، وكأن مدة محاولة الكليم عليه الصلاة والسلام لهم كانت قريبة، فلذلك عبر بالفاء في قوله‏:‏ ‏{‏فلما آسفونا‏}‏ أي فعلوا معناه ما يغضب إغضاباً شديداً بإغضاب أوليائنا كما في الحديث القدسي «مرضت فلم تعدني» لنكثهم مرة بعد مرة وكرة في إثر كرة ‏{‏انتقمنا منهم‏}‏ أي أوقعنا بهم على وجه المكافأة لما فعلوا برسولنا عليه السلام عقوبة عظيمة منكرة مكروهة كأنها بعلاج ‏{‏فأغرقناهم‏}‏ في اليم ‏{‏أجمعين‏}‏ إهلاك نفس واحدة لم يفلت منهم أحد على كثرتهم وقوتهم وشدتهم، وهذا لا يكون في العادة إلا بعد علاج كثير أو اعتناء كبير‏.‏

ولما كان إهلاكهم بسبب إغضابهم لله وبالكبر على رسله، كانوا سبباً لأن يتعظ بحالهم من يأتي بعدهم فلذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏فجعلناهم‏}‏ أي بأخذنا لهم على هذه الصورة من الإغراق وغيره مما تقدمه ‏{‏سلفاً‏}‏ متقدماً لكل من يهلك بعدهم إهلاك غضب في الهلاك في الدنيا والعذاب في الآخرة وقدوة لمن يريد العلو في الأرض فتكون عاقبته في الهلاك في الدارين أو إحداهما عاقبتهم كما قال سبحانه عز من قائل وتبارك وتعالى ‏{‏وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 41‏]‏‏:‏ ‏{‏ومثلاً‏}‏ أي حديثاً عجيباً سائراً مسير المثل ‏{‏للآخرين‏}‏ الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين، فمن قضى أن يكون على مثل حالهم عمل مثل أعمالهم، ومن أراد النجاة مما نالهم تجنب أفعالهم، فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر، وجعل له منهم مثلاً يجترئ به على شره، ويقوى على خبثه ومكره، فيجعل الشرير ما أوتوه من الدنيا من النعمة والحبرة الرفاهية والنصرة مثلاً له في التوصل إليه مما كانوا عليه من الظلم، ويجعل الخير إهلاكهم مثلاً له فيبعد عن أفعالهم لينجو من مثل نكالهم، يقول أحدهم‏:‏ أخذ الفلانيون أخذ آل فرعون، أي لم يفلت منهم إنسان ونحو ذلك من أمثالهم في جميع أحوالهم، ونقول نحن‏:‏ إنا نهلك من ظلم وتمادى في ظلمه بعد تحذيرنا له وغشم وإن عظم آله وأتباعه، وظن عزه وامتناعه، كدأب آل فرعون، ويقول من أريد به الشر‏:‏ ليس على ظهرها أحد يبقى إن خاف العواقب فأحجم عن شهواته وانهمك في رياض أهويته وإرادته وشهي طيباته وكذا ذاته كما وقع لفرعون فإنه لم يرجع لشيء عن رئاسته، وبلوغ النهاية من صلفه ونفاسته إلى أن ذهب به كما ذهب بغيره سواء سار بسيره أو بغير سيره، ولقد ضل به قوم وأضلوا، وحلوا لمن داناهم عرى الدين فزلوا، وما كفاهم ذلك حتى ادعوا أنه من أعز المقربين لأن الذي كان آخر كلامه الإيمان، فجب ما كانا قبله ولم يتدنس بعده فمات طاهراً مطهراً ليس فيه شيء من الدنس مع أن ذلك ما كان إلا عند اليأس حيث لا نفع فيه، وغروا الضعفاء بأن قالوا‏:‏ إنه لا صريح في القرآن بعذابه بعد الموت تعمية عن الدليل القطعي المنتظم من قوله تعالى ‏{‏وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 83‏]‏ ‏{‏وإن المسرفين هم أصحاب النار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 43‏]‏ المنتج من غير شك أن فرعون من أصحاب النار، وقوله تعالى ‏{‏فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كانت عاقبة الظالمين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون‏}‏

وقوله تعالى ‏{‏كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد‏}‏ إلى أن قال ‏{‏إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 14‏]‏ غير ذلك من محكم الآيات وصريح الدلالات البينات، وكذا غير فرعون وقومه من الصالحين والطالحين جعلهم سبحانه سلفاً ومثلاً للآخرين، فمن أراد به خيراً يسر له مثل خير احتذى به، ومن أراد به شراً أضله بمثل سوء اقتدى به، فقد جعل الله عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لتمام قدرته على اختراع الأشياء بأسباب وبغير أسباب، وكان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأزهدهم وأقربهم إلى الخير وأبعدهم عن الشر، فاقتدى به من أراد الله به الخير في مثل ذلك فاهتدى به، وضل به آخرون وضربوا به لأنفسهم أمثال الآلهة، وصاروا يفرحون بما لا يرضاه عاقل ولا يراه، وضربه قومك مثلاً لآلهتهم لما أخبرنا أنهم معهم حصب جهنم وسروا بذلك وطربوا وظنوا أنهم فازوا وغلبوا‏:‏ ‏{‏ولما ضرب ابن مريم‏}‏ أي ضربه ضارب منهم ‏{‏مثلاً‏}‏ لآلهتهم ‏{‏إذا قومك‏}‏ أي الذين أعطيناهم قدرة على القيام بما يحاولونه ‏{‏منه‏}‏ أي ذلك المثل ‏{‏يصدون‏}‏ أي يضجون ويعلون أصواتهم سروراً بأنهم ظفروا على زعمهم بتناقض، فيعرضون به عن إجابة دعائك، يقال‏:‏ صد عنه صدوداً‏:‏ أعرض، وصد يصد ويصل‏:‏ ضج- قاله في القاموس، فلذلك قال ابن الجوزي‏:‏ معناهما جميعاً- أي قراءة ضم الصاد وقراءة كسرها- يضجون، ويجوز أن يكون معنى المضمومة‏:‏ يعرضون، قال ابن برجان‏:‏ والكسر أعلى القراءتين- انتهى‏.‏

وذلك أن قريشاً قالوا كما مضى في الأنبياء ‏{‏إنا وما نعبد في جهنم‏}‏ مقتض أن يكون عيسى كذلك، وأن نستوي نحن وآلهتنا به، فإنه مما عبد ونحن راضون بمساواته لنا- إلى آخر ما قالوا وما رد عليهم سبحانه به من الآية من العام الذي أريد به الخصوص كما هو مقتضى كلامهم ولسانهم في أن الأصل في «ما» لما لا يعقل، وذلك هو المراد من قوله تعالى حاكياً عنهم‏:‏ ‏{‏وقالوا أآلهتنا‏}‏ التي نعبدها من الأصنام والملائكة ‏{‏خير أم هو‏}‏ أي عيسى فنحن راضون بأن نكون معه‏.‏

ولما اشتد التشوف إلى جوابهم، وكان قد تقدم الجواب عنه في الأنبياء، قدم عليه هنا أن مرادهم بذلك إنما هو المماحكة والمماحلة والمراوغة والمقاتلة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏ما ضربوه‏}‏ أي ما ضرب الكفار‏:‏ ابن الزبعري حقيقة وغيره من قومك مجازاً، المثل لآلهتهم بعيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏لك إلا جدلاً‏}‏ أي لإرادة أن يقتلوك عن دعوتك مغالطة وهم عالمون بأن ما ألزموك به غير لازم ولم يعتقدوا لزومه قط لأن الكلام ما كان إلا في أصنامهم، ولأن الخصوص في كلامهم شائع، ولأنه قد عقب بما يبين الخصوص ويزيل اللبس على تقدير تسليمه، فلم يقتدوا قط بما ألزموا به أنه لازم ‏{‏بل هم قوم‏}‏ أي أصحاب قوة على القيامة بما يحاولونه ‏{‏خصمون‏}‏ أي شديدو الخصام قادرون على اللدد، روى الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي إمامة رضي الله عنهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم قرأ الآية»‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 63‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏ وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏ وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏‏}‏

ولما تضمن هذا أنه غير مهان، صرح به على وجه الحصر قصر قلب لمن يدعي أنه مقصور على الإلهية فقال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ أي ما ‏{‏هو‏}‏ أي عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏إلا عبد‏}‏ وليس هو بإله ‏{‏أنعمنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة والإحسان ‏{‏عليه‏}‏ أي بالنبوة والإقدار على الخوارق ‏{‏وجعلناه‏}‏ بما خرقنا به العادة في ميلاده وغير ذلك من آياته ‏{‏مثلاً‏}‏ أي أمراً عجيباً مع وضوحه وجلائه فيه خفاء وموضع شبهة بأن جعلناه من أنثى فقط بلا واسطة ذكر ليضل بذلك من يقف مع المحسوسات، ودللنا على الحق فيه بما منحنا به من الخوارق وزكاء الأخلاق وطيب الشيم والإعراق إسعاداً لمن أعليناه بنور قلبه وصفاء لبه إلى إحسان النظر في المعاني ‏{‏لبني إسرائيل‏}‏ الذين هم أعلم الناس به، بعضهم بالمشاهدة وبعضهم بالنقل القريب، فلما جاءهم على تلك الحالة الجلية في كونها حقاً بما كان على يديه ويدي أمه من الكرامات، آمن به من بصره الله منه بالحق من أمره بما كان فيه من الكرامات، وكان كلما رأى رجلاً منهم على منهاجه في أعماله وكرامته اهتدى إلى الحق من أمره، وقال‏:‏ هذا مثله عيسى عليه الصلاة والسلام فانتفع بالنبي ومن تبعه بإحسان، فنال من الله الرضوان، وقال أيضاً هذا الموفق مستبصراً في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ مثله في ذلك مثل أبيه آدم عليه الصلاة والسلام في إخراجه من أنثى بلا ذكر، بل آدم عليه الصلاة والسلام أعجب، ومثل ابن خالته يحيى وجده إسحاق عليهما الصلاة والسلام في إخراج كل منهما بسبب هو في غاية الضعف، هذه أمثاله الحسنة وقال من أراد الله به الضلال منهم غير ذلك من المحال، فلما جعلوا له أمثال السوء ضرب الله عليهم الذلة والمسكنة، وقال ابن برجان‏:‏ خصهم- أي بني إسرائيل- بالذكر لأنهم المفتونون بالدجال المسارعون إليه، ثم قال‏:‏ وإنما المثل في ذلك متى جاء الدجال بتلك الآيات يدعو إلى نفسه فيعارض ما يأتي به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وتأييده بروح القدس، أي فيضل عن الأمر الواضح من أراد الله فتنته- انتهى، والأحسن أن يكون معنى كونه مثلاً أنه جعل أمره واضحاً جداً بحيث أنه يمثل به فيكون موضحاً لغيره، ولا يحتاج هو إلى مثل يوضحه عند من له أدنى بصيرة‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فلو شئنا لجعلنا الناس كلهم من أنثى بلا ذكر، ولو شئنا لساويناكم بهم في ذلك الذي ضربناه عليهم من الذل عندما جعلوا له مثل السوء فزدنا ما أنتم فيه من الذل والحقارة عن سائر الأمم بأن سلطانهم عليكم حتى استباحوكم، ولو شئنا لمحوناكم أجمعين عن وجه الأرض فتركناها بيتاً‏؟‏ لا أنيس بها، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولو‏}‏ معبراً بصيغة المضارع إشارة إلى دوام قدرته على تجديد الإبداع فقال‏:‏ ‏{‏نشاء لجعلنا‏}‏ أي على ما لنا من العظمة ما هو أغرب مما صنعناه في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏منكم‏}‏ أي جعلاً مبتدئاً منكم، إما بالتوليد كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام من أنثى من غير ذكر وجعلنا آدم عليه الصلاة والسلام من تراب من غير أنثى ولا ذكر وإما بالبدلية ‏{‏ملائكة في الأرض يخلفون *‏}‏ أي يكونون خلفاً لكم شيئاً بعد شيء بعد إعدامكم فجعلناهم مثلاً لكم كما جعلنا عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً لبني إسرائيل، ويجوز أن يكون المعنى‏:‏ لجعلنا بعضكم ملائكة بأن نحول خلقتهم فنجعلهم خلفاً لمن تحولوا عنهم ونخلف بعضهم بعضاً، فإنهم من جملة عبادنا أجسام تقبل التوليد كما تقبل الإبداع، وعلى كلا التقديرين فذلك إشارة إلى أن الملائكة ذوات ممكنة من جملة عبيده سبحانه، يصرفهم في مراده إن شاء في السماء، وإن شاء في الأرض، لا شيء منكم إلا وهو بعيد جداً عن رتبة الإلهية إرشاداً لهم إلى الاعتقاد الحق في أمره سبحانه بشمول قدرته وكمال علمه اللازم منه أنه لا إله إلا هو‏.‏

ولما ذكر سبحانه الإعدام والخلافة بسببه فرضاً، ذكر أن إنزاله إلى الأرض آخر الزمان أمارة على إعدام الناس تحقيقاً، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم‏:‏ ‏{‏وإنه‏}‏ أي عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏لعلم للساعة‏}‏ أي نزوله سبب للعلم بقرب الساعة التي هي إعدامه الخلائق كلهم بالموت، وكذا ما نقل عنه من أنه كان يحيى وكذا إبراؤه الأسقام سبب عظيم للقطع بالساعة التي هي القيامة، فهو سبب للعلم بالأمرين‏:‏ عموم الإعدام وعموم القيام‏.‏

ولما كان قريش يستنصحون اليهود يسألونهم- لكونهم أهل الكتاب- عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النصارى مثلهم في ذلك، وكان كون عيسى عليه الصلاة والسلام من أعلام الساعة أمراً مقطوعاً به عند الفريقين، أما النصارى فيقولون‏:‏ إنه الذي أتى إليهم ورفع إلى السماء كما هو عندنا، وأما اليهود فيقولون‏:‏ إنه إلى الآن لم يأت، ويأتي بعد، فثبت بهذا أمر عيسى عليه الصلاة والسلام فيما أخبر الله تعالى عنه من إنعامه عليه، ومن أنه من أعلام الساعة بشهادة الفرق الثلاثة اليهود والنصارى والمسلمين ثباتاً عظيماً جداً، فصارت كأنها مشاهدة، فلذلك سبب عما سبق قوله على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام، لافتاً القول إلى مواجهتهم مؤكداً في مقابلة إنكارهم لها بما ثبت من شهادة الفرق الثلاثة‏:‏ ‏{‏فلا تمترن‏}‏ أي تشكوا أدنى شك وتضطربوا أدنى اضطراب وتجحدوا أدنى جحد وتجادلوا أدنى جدل ‏{‏بها‏}‏ أي بسببها، يقال‏:‏ مرى الشيء وامتراه‏:‏ استخرجه، ومراه مائة سوط‏:‏ ضربه، ومراه حقه، أي جحده، والمرية بالضم والكسر‏:‏ الجدل والشك ‏{‏واتبعون‏}‏ أي أوجدوا تبعكم بغاية جهدكم ‏{‏هذا‏}‏ أي كل ما أمرتكم به من هذا وغيره ‏{‏صراط‏}‏ أي طريق واسع واضح ‏{‏مستقيم‏}‏ أي لا عوج فيه‏.‏

ولما حثهم على السلوك لصراط الولي الحميد بدلالة الشفوق النصوح الرؤوف الرحيم، حذرهم من العدو البعيد المحترق الطريد، فقال دالاً على عظيم فتنته بما له من التزيين للمشتهى والأخذ من المأمن والتلبيس للمشكل والتغطية للخوف بالتأكيد، لما هم تابعون من ضده على وجه التقليد‏:‏ ‏{‏ولا يصدنكم‏}‏ أي عن هذا الطريق الواضح الواسع المستقيم الموصل إلى المقصود بأيسر سعي ‏{‏الشيطان‏}‏ ولما كان كأنه قيل ما له يصدنا عن سبيل ربنا‏؟‏ ذكر العلة تحذيراً في قوله‏:‏ ‏{‏إنه لكم‏}‏ أي عامة، وأكد الخبر لأن أفعال التابعين لكم أفعال من ينكر عداوته‏:‏ ‏{‏عدو مبين‏}‏ أي واضح العداوة في نفسه مناد بها، وذلك بإبلاغه في عداوة أبيكم حتى أنزلكم بإنزاله عن محل الراحة إلى موضع النصب، عداوة ناشئة عن الحسد، فهي لا تنفك أبداً‏.‏

ولما قدم سبحانه أنه أنعم على عيسى عليه الصلاة والسلام وجعله مثلاً لبني إسرائيل، ولوح إلى اختلافهم وأن بعضهم نزل مثله على غير ما هو به، وحذر من اقتدى بهم في نحو ذلك الضلال، وأمر باتباع الهادي، ونهى عن اتباع المضل، صرح بما كان من حالهم حين أبرزه الله لهم على تلك الحالة الغريبة، فقال عاطفاً على ما تقدم تقديره بعد قوله تعالى ‏{‏وجعلناه مثلاً‏}‏‏:‏ ‏{‏ولما جاء عيسى‏}‏ أي إلى بني إسرائيل بعد موسى عليهما الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏بالبينات‏}‏ أي من الآيات المسموعة والمرئية، ‏{‏قال‏}‏ منبهاً لهم‏:‏ ‏{‏قد جئتكم‏}‏ ما يدلكم قطعاً على أنه آية من عند الله وكلمة منه أيضاً ‏{‏بالحكمة‏}‏ أي الأمر المحكم الذي لا يستطاع نقضه ولا يدفع إلا بالمعاندة لأخلصكم بذلك مما وقعتم فيه من الضلال‏.‏

ولما كان المراد بالحكمة ما نسخ من التوراة وغيره من كل ما أتاهم به، فكان التقدير‏:‏ لتتبعوه وتتركوا ما كنتم عليه أمراً خاصاً هو من أحكم الحكمة فقال‏:‏ ‏{‏ولأبين لكم‏}‏ أي بياناً واضحاً جداً ‏{‏بعض الذي تختلفون‏}‏ أي الآن ‏{‏فيه‏}‏ ولا تزالون تجددون الخلافة بسببه، وهذا البعض الظاهر بما يرشد إليه ختام الآية أنه المتشابه الذي كفروا بسببه بينه بياناً يرده إلى المحكم، ويحتمل أن يكون بعض المتشابه، وهو ما يكون بيانه كافياً في رد بقية المتشابه إلى المحكم بالقياس عليه، فإن الشأن في كل كتاب أن يجمع المحكم والمتشابه، فالمحكم ما لا لبس فيه، والمتشابه ما يكون ملبساً، وفيه ما يرده إلى المحكم لكن على طريق الرمز والإشارة التي لا يذوقها إلا أهل البصائر ليتبين بذلك الصادق من الكاذب فالصادق الذي رسخ علماً وإيماناً يرد المتشابه منه إلى المحكم، أو يعجز فيقول‏:‏ الله أعلم، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، ولا يتزلزل، والكاذب يتبع المتشابه فيجريه على ظاهره فيشبه كأهل الاتحاد الجوامد المفتونين بالمشاهدة ويؤول بحسب هواه بما لا يتمشى على قواعد العلم ولا يوافق المحكم فيفتتن‏.‏

ولما صح بهذا أن الذي أرسله الملك الأعلى الذي له الأمر كله، فهو فعال لما يشاء، وكان الحامل على الانتفاع بالرسل عليهم الصلاة والسلام التقوى، سبب عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ أي خافوه لما له من الجلال بحيث لا تقدموا على شيء إلا ببيان منه لأن له كل شيء منكم ومن غيركم، ومن المعلوم لكل ذي عقل أنه لا يتصرف في ملك الغير بوجه من الوجوه إلا بإذنه ‏{‏وأطيعون *‏}‏ فيما أنقلكم إليه وأبينه لكم مما أبقيكم عليه، فإني لا آخذ شيئاً إلا عنه، ولا أتلقى إلا منه، فطاعتي لأمره بما يرضيه هي ثمرة التقوى، وكلما زاد المتقي في أعمال الطاعة زادت تقواه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏64- 69‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏ فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

ولما أمرهم بطاعته، علل ذلك بما أزال تهمته ما يطاع فيه، فقال مؤكداً لما في أعمالهم من المجاملة المؤذنة بالتكذيب‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي اختص بالجلال والجمال، فكان أهلاً لأن يتقى ‏{‏هو‏}‏ أي وحده ‏{‏ربي وربكم‏}‏ نحن في العبودية بإحسانه إلينا وسيادته لنا على حد سواء، فلولا أنه أرسلني لما خصني عنكم بهذه الآيات البينات ‏{‏فاعبدوه‏}‏ بما آمركم به لأنه صدقني في أمركم باتباع ما ظهر على يدي فصار هو الآمر لا أنا‏.‏

ولما كان دعاؤه إلى الله بما لا حظ له عليه الصلاة والسلام فيه دل قطعياً على صدقه ولا سيما وقد اقترن بالمعجزات مع كونه في نفسه في غاية الخفية لا يستطاع بعضه بوجه، أشار إلى ذلك كله بقوله على وجه الاستنتاج مما مضى مرغباً فيه دالاً على اقتضائه الطاعة ‏{‏هذا‏}‏ أي الأمر العظيم الذي دعوتكم إليه ‏{‏صراط‏}‏ أي طريق واسع جداً واضح ‏{‏مستقيم‏}‏ لا عوج له‏.‏

ذكر ما يدل على أنه أتى بالحكمة من الإنجيل‏:‏

قال متى أحد مترجميه الأربعة وقد خلطت تراجمهم وأغلب السياق لمتى‏:‏ فلما خرج يسوع وجاء إلى نواحي صور وصيدا إذا بامرأة كنعانية- وقال مرقس‏:‏ يونانية- خرجت من تلك التخوم تصيح وتقول‏:‏ ارحمني يا رب يا ابن داود‏!‏ ابنتي بها شيطان رديء، فلم يجبها بكلمة، فجاء تلاميذه وسألوه قائلين‏:‏ اصرف هذه المرأة لأنها تصيح خلفنا، أجاب وقال لهم‏:‏ لم أرسل إلا إلى الخراف من بيت إسرائيل، فأتت وسجدت له قائلة‏:‏ يا رب أعني فأجاب‏:‏ ليس هو جيداً أن يؤخذ خبز البنين فيعطى للكلاب، فقالت‏:‏ نعم‏!‏ يا رب، والكلاب تأكل من الفتات الذي يسقط من موائد أربابها، حينئذ أجاب يسوع وقال لها‏:‏ يا امرأة عظيمة أمانتك يكون لك كما أردت، فبرئت ابنتها منه تلك الساعة، وقال مرقس‏:‏ فقال لها من أجل هذه الكلمة اذهبي، قد خرج الشيطان من ابنتك، فهذبت إلى ابنتها فوجدت الصبية على السرير والشيطان قد خرج منها، فجاؤوا إليه بأخرس أصم فطلبوا إليه أن يضع يده عليه، فأخرجوه وحده من الشعب، وترك أصابعه في أذنيه، وتفل ثم مس لسانه ونظر إلى السماء وشهد وقال‏:‏ الفاثاً الذي هو التفتح، وللوقت انفتح سمعه وسمع، وانحل رباط لسانه وتكلم مستوياً، ووصاهم أن لا يقولوا لأحد شيئاً فأتاهم فكانوا ينكرون كثيراً ويبهتون جداً، قائلين‏:‏ ما أحسن كل شيء‏!‏ يصنع الخرس يتكلمون والصم يسمعون، وقال مرقس‏:‏ ثم جاء إلى بيت صيدا فقدموا إليه أعمى، وطلبوا منه أن يلمسه، فأخذ بيد الأعمى ثم أخرجه خارجاً من القرية، وتفل في عينيه ووضع يده عليه وسأله‏:‏ ما ينظر‏؟‏ قال‏:‏ أنظر الناس مثل الشجر يمشون، فوضع يده أيضاً على عينيه، فأبصر حيناً ونظر إلى كل شيء ظاهراً، قال‏:‏ ثم جاء إلى ناحية قيسارية فيلقس فسأل تلاميذه‏:‏ ماذا يقول الناس في ابن الإنسان‏؟‏ فقال قوم‏:‏ يوحنا المعمدان، وآخرون‏:‏ إليا، وآخرون‏:‏ إرميا، وواحد من الأنبياء، فقال لهم‏:‏ فأنتم ماذا تقولون‏؟‏ أجاب سمعان بطرس- وقال‏:‏ أنت هو المسيح، أجاب يسوع وقال له‏:‏ طوبى لك يا سمعان ابن يونا لأنه ليس جسد يسعى وأبواب الجحيم لا تقوى عليه ولك أعطي ملكوت السماوات، وما ربطته الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما حللته على الأرض يكون محلولاً في السماوات، وبدأ يسوع من ذلك الوقت يخبر تلاميذه أنه ينبغي أن يمضي إلى يروشليم ويقبل الآماً كثيرة من المشايخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وقال‏:‏ من أراد أن يخلص نفسه فليهلكها، وهن أهلك نفسه من أجلي وجدها، وما ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه‏؟‏ وماذا يعطي الإنسان فداء لنفسه، وقال لوقا‏:‏ وكان جمع كثير ينطلق فالتفت لهم وقال لهم‏:‏ من يأتي إليّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وبنيه وإخوته وأخواته نعم حتى نفسه، فلا يقدر أن يكون لي تلميذاً، من منكم يريد أن يبني برجاً ولا يجلس أولاً ويحسب نفقته‏؟‏ وهل له ما يكمله لكيما يستهزئ به كل من ينظره إذا وضع الأساس ولم يقدر على إكماله، وأي ملك يخرج إلى محاربة ملك آخر فلا يجلس أولاً ويفكر هل يستطيع أن يلقي بعشرة آلاف الموافي إيه في عشرين ألفاً إلا فما دام بعيداً منه يرسل رسلاً رسل سلامة، وهكذا كل منكم إن لم يرفض كل شيء له لا يقدر أن يكون لي تلميذاً، وذكر لوقا أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام كان في وليمة فقال مثلاً لأنهم كانوا يتخيرون المتكآت فقال لهم‏:‏ متى دعاك أحد إلى عرس فلا تجلس في أول الجماعة، فلعله قد دعا هناك أكرم منك عليه فيأتي الذي دعاه فيقول له‏:‏ يا حبيب‏!‏ ارتفع إلى فوق، حينئذ يكون لك مجداً قدام المتكئين معك لأن كل من يرتفع يتضع، وكل من يتضع يرتفع، وقال للذي دعاه‏:‏ وإذا صنعت وليمة فلا تدع أحباءك ولا إخوتك ولا أقاربك ولا أغنياء جيرانك لعلهم أن يدعوك أيضاً فيكون لك مكافأة، لكن إذا صنعت طعاماً فادع المساكين والعور والضعفاء والعميان، وطوباك لأنه ليس لك ما يكافئونك، ومجازاتك تكون في قيامة الصديقين، فسمع واحد من المتكئين ذلك، فقال له‏:‏ طوبى لمن يأكل خبزاً في ملكوت الله، وقال متى‏:‏ وجاء تلاميذ يسوع إليه وقالوا له‏:‏ من هو العظيم في ملكوت السماوات، فدعا طفلاً وأقامه بينهم وقال‏:‏ الحق أقول‏:‏ إن لم ترجعوا وتكونوا مثل الصبيان لا تدخلوا ملكوت السماوات، ومن اتضع مثل هذا الصبي فهو العظيم في ملكوت السماوات، ومن قبل صبياً مثل هذا باسمي فقد قبلني، قال مرقس‏:‏ ومن قبلني فليس يقبلني فقط بل والذي أرسلني، وقال لوقا‏:‏ ومن قبلني فقد قبل الذي أرسلني، والذي هو الصغير فيكم هو الأكبر، قال متى‏:‏ ومن شك أحد هؤلاء الصغار المؤمنين فخير أن يعلق حجر الرحى في رقبته، ويغرق في البحر، الويل للعالم من الشكوك لكمن الويل للإنسان الذي يأتي منه الشكوك، إن شكتك يدك أو رجلك فاقطعها وألقها عنك، فخير لك أن تدخل الحياة وأنت أعرج أو أعشم من أن يكون لك يدان أو رجلان وتلقى في نار الأبد، وقال مرقس‏:‏ وتذهب إلى جهنم حتى لا تطفأ نارها ولا يموت دورها- انتهى‏.‏

وإن شكتك عينك فاقلعها وألقها عنك فخير لك أن تدخل الحياة بعين واحدة من أن يكون لك عينان وتلقى في جهنم، وقال مرقس‏:‏ وكل شيء بالنار يملح وكل ذبيحة تملح بالملح جيد هو الملح، فإن فسد الملح فبما ذا يملح فليكن فيكم الملح، ويكون سلام بعضكم بعضاً، وقال لوقا‏:‏ ثم قال‏:‏ من أجل أقوام يقولون‏:‏ إنهم صديقون ويحقرون البقية، هذا المثل رجلان صعدا إلى الهيكل ليصليا، أحدهما فريسي والآخر عشار، فأما الفريسي فإنه كان يصلي بهذا في نفسه‏:‏ اللهم إني أشكرك لأني لست مثل سائر الناس العاصين الظلمة الفجار، ولا مثل هذا العشار، فكان قائماً من بعيد ولا يرى أن يرفع عينيه إلى السماء، وكان يضرب على صدره ويقول‏:‏ اللهم اغفر لي فإني خاطئ، أقول لكم‏:‏ إن هذا نزل إلى بيته أمر من ذلك لأن كل من يرفع نفسه يتضع، ولك من يضع نفسه يرتفع، ثم قدم إليه صبيان ليضع يده عليهم، فلما نظرهم التلاميذ نهروهم فقال‏:‏ دعوا الصبيان يأتوا إليّ ولا تمنعوهم لأن ملكوت الله لمثل هؤلاء، الحق أقول لكم، إن من لا يقبل ملكوت الله مثل صبي لا يدخلها، وقال متى‏:‏ انظروا لا تحقروا أحد هؤلاء الصغار، لم يأت ابن الإنسان إلا ليطلب ويخلص من كان ضالاً، ماذا تظنون إذا كان الإنسان مائة خروف فضل منها واحد ليس يترك التسعة والتسعين في الجبل، ويمضي يطلب الضال‏؟‏ وقال لوقا‏:‏ حتى يجده، الحق أقول لكم، إنه يفرح به أكثر من التسعة والتسعين التي لم تضل، هكذا ليس مشيئة ربي الذي في السماوات أن يهلك أحد من هؤلاء الصغار، وقال لوقا‏:‏ ودنا منه العشارون والخطأة ليسمعوا منه فتذمر الفريسيون والكتبة قائلين‏:‏ هذا يقبل الخطأة ويأكل معهم، فقال لهم‏:‏ أي رجل منكم له مائة خروف فيتلف واحد منها ليس يترك التسعة والتسعين في البرية ويمضي إلى الضال حتى يجده، فإذا وجده حمله على منكبيه فرحاً، ويأتي به إلى بيته ويدعو أصدقاءه وجيرانه ويقول لهم‏:‏ افرحوا معي لوجودي خروفي الضال، أقول لكم‏:‏ إنه يكون فرح في السماء بخاطئ واحد يتوب أكثر من التسعة والتسعين الصديق الذين لا يحتاجون إلى توبة، وأي امرأة لها عشرة دراهم يتلف واحد منها أليس توقد سراجاً وتكنس بيتها وتطلبه مجتهدة حتى تجده، فإذا وجدته دعت أحبابها وجاراتها قائلة‏:‏ افرحوا لي لوجودي درهمي الضال، هكذا أقول لكم‏:‏ يكون فرح قدام ملائكة الله بخاطئ واحد يتوب، وقال‏:‏ إنسان له ابنان فقال الأصغر يا أبتاه‏!‏ أعطني نصيبي من مالك فقسم بينهما ماله، وبعد أيام قليلة جمع الأصغر كل شيء له وسافر إلى كورة بعيدة، وبذر ماله هناك بعيش بذخ، فلما نفد كل شيء له حدث جوع شديد في تلك الكورة فافتقر وانقطع إلى رجل منها فأرسله إلى حقله يرعى خنازير، وكان يشتهي أن يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله، فلا يعطى ذلك، ففكر في نفسه وقال‏:‏ كم من أجراء أبي يفضل عنهم الخبز وأنا ههنا أهلك جوعاً، أقوم أمضي إلى أبي وأقول‏:‏ يا أبتاه‏!‏ أخطأت في السماء وبين يديك، ولست بمستحق أن أدعى لك ابناً لكن اجعلني كأحد أجرائك فجاء إليه فنظره أبوه فتحنن وأسرع واعتنقه وقبله فقال‏:‏ يا أبتاه‏!‏ أخطأت في السماء وقدامك، ولست بمستحق أن ادعى لك ابناً، فقال أبوه لعبيده‏:‏ قدموا الحلة الأولى وألبسوه وأعطوه خاتماً في يده، وحذاء في رجليه، وائتوا بالعجل المعلوف واذبحوه ونأكل ونفرح لأن ابني هذا كان ميتاً فعاش، وضالاً فوجد، فبدؤوا يفرحون، وكان ابنه الأكبر في الحقل، فلما جاء وقرب من البيت سمع المزاهر واتفاق الأصوات والرقص، فدعا واحداً من الغلمة وسأله فقال له‏:‏ إن أخاك قدم، وذبح أبوك العجل المعلوف، فغضب ولم يرد أن يدخل، فخرج أبوه وطلب إليه فقال‏:‏ كم لي من سنة أخدمك ولم أخالف لك وصية قط ولم تعطني جدياً واحداً أتنعم به مع أصدقائي، فلما جاء ابنك هذا الذي أكل مالك مع الزناة ذبحت له العجل المعلوف، فقال له‏:‏ يا بني‏!‏ أنت معي في كل حين وفي كل شيء هو لي، وينبغي لك أن تسر وتفرح لأن أخاك هذا كان ميتاً فعاش، وضالاً فوجد‏.‏

وقال‏:‏ رجل كان غنياً يلبس الأرجوان وكان يتنعم كل يوم ويلذ، ومسكين كان اسمه العازر مطروحاً عند بابه مضروباً بقروح، وكان يشتهي أن يشبع من الفتات الذي يسقط من مائدة ذلك الغني، وكانت الكلاب تأتي وتلطع قروحه، فلما مات ذلك المسكين أخذته الملائكة إلى حصن إبراهيم، ومات ذلك الغني وقبو فرفع عينيه في الهاوية وهو في العذاب، فنظر إبراهيم من بعيد والعازر في حصنه، فنادى‏:‏ يا أبتاه إبراهيم‏!‏ ارحمني وأرسل العازر ليبل طرف إصبعه بما يبرد لساني لأني معذب في اللهب، فقال له إبراهيم‏:‏ يا ابني اذكر أنك قد قتلت جيرانك في حياتك والعازر في بلائه والآن فهو يستريح ههنا وأنت تعذب، ومع ذلك فبيننا وبينكم أهوية عظيمة نائية لا يقدر أحد على العبور من ههنا إليكم، ولا من هنا إلينا، قال له‏:‏ أسألك يا أبتاه أن ترسله إلى بيت أبي، فإن خمسة أخوة لكي يناشدهم لئلا يأتوا إلى موضع هذا العذاب، قال له إبراهيم‏:‏ عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا منهم، فقال له‏:‏ يا أبتاه إبراهيم‏!‏ إن لم يمض إليهم واحد من الأموات ما يتوبون‏؟‏ فقال له‏:‏ إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء فليس إن قام واحد من الأموات يصدقونه، وقال لتلاميذه‏:‏ سوف تأتي الشكوك والويل، الذي تأتي الشكوك من قبله خير له لو علق حجر رحى الحماز في عنقه ويطرح في البحر من أن يشك أحداً من هؤلاء الضعفاء- والله أعلم‏.‏

ولما كان الطريق الواضح القديم موجباً للاجتماع عليه، والوفاق عند سلوكه، بين أنهم سببوا عنه بهذا الوعظ غير ما يليق بهما بقوله‏:‏ ‏{‏فاختلف‏}‏ وبين أنهم أكثروا الاختلاف بقوله‏:‏ ‏{‏الأحزاب‏}‏ أي إنهم لم يكونوا فرقتين فقط، بل فرقاً كثيرة‏.‏ ولما كانت العادة أن يكون الخلاف بين أمتين وقبيلتين ونحو ذلك، وكان اختلاف الفرقة الواحدة عجباً، بين أنهم من أهل القسم فقال‏:‏ ‏{‏من بينهم‏}‏ أي اختلافاً ناشئاً ابتدأ من بين بني إسرائيل الذين جعلناهم مثلاً لهم‏:‏ وقال لهم‏:‏ قد جئتكم بالحكمة، فسبب عن اختلافهم قوله‏:‏ ‏{‏فويل‏}‏ وكان أن يقال‏:‏ لهم، ولكنه ذكر الوصف الموجب للويل تعميماً وتعليقاً للحكم به‏.‏ ولما كان في سياق الحكمة، وهو وضع الشيء في أتقن مواضعه، جعل الوصف الظلم الذي أدى إليه الاختلاف فقال‏:‏ ‏{‏للذين ظلموا‏}‏ أي وضعوا الشيء في غير موضعه مضادة لما أتاهم صلى الله عليه وسلم به من الحكمة ‏{‏من عذاب يوم أليم‏}‏ أي مؤلم، وإذا كان اليوم مؤلماً لما الظن بعذابه‏.‏

ولما عم الظالمين بالوعيد بذلك اليوم فدخل فيه قريش وغيرهم، أتبعه ما هو كالتعليل مبرزاً له في سياق الاستفهام لأنه أهول فقال‏:‏ ‏{‏هل‏}‏ وجرد الفعل إشارة إلى شدة القرب حتى كأنه بمرأى فقال‏:‏ ‏{‏ينظرون‏}‏ أي ينتظرون ‏{‏إلا الساعة‏}‏ أي ساعة الموت العام والبعث والقيام، فإن ذلك لتحقق أمره كأنه موجود منظور إليه‏.‏

ولما قدم الساعة تهويلاً تنبيهاً على أنها لشدة ظهور دلائلها كأنها مرئية بالعين هزاً لهم إلى تقليب أبصارهم لتطلب رؤيتها، أبدل منها زيادة في التهويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أن تأتيهم‏}‏ وحقق احتمال رؤيتها بقوله‏:‏ ‏{‏بغتة‏}‏ ولما كان البعث قد يطلق على ما يجهل من بعض الوجوه، أزال هذا الاحتمال بقوله‏:‏ ‏{‏وهم لا يشعرون‏}‏ أي لا يحصل لهم بعين الوقت الذي يجيء نوع من أنواع العلم، ولا بما كالشعرة منه‏.‏

ولما كانت الساعة تطلق على الحبس بالموت وعلى النشر بالحياة، بين ما يكون في الثاني الذي هم له منكرون من أحوال المبعوثين على طريق الاسئتناف في جواب من يقول‏:‏ هل يقومون على ما هم عليه الآن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏{‏الأخلاء‏}‏ أي في الدار ‏{‏يومئذ‏}‏ أي إذ تكون الساعة وهي ساعة البعث التي هي بعض مدلول الساعة ‏{‏بعضهم لبعض عدو‏}‏ ولما ينكشف لهم من أن تأخيرهم في الحياة هو السبب في عذابهم، فيقول التابع للمتبوع‏:‏ أنت غررتني فضررتني، ويقول المتبوع‏:‏ بل أنت كبرتني فصغرتني، ورفعتني فوضعتني، ونحو هذا من الكلام المؤلم أشد الإيلام ‏{‏إلا المتقين‏}‏ الذين تقم أمرهم بالتقوى وحثهم عليها‏.‏

ولما أفهم هذا أنهم لا عداوة بينه، بل يكونون في التواد على أضعاف ما كانوا عليه في الدنيا لما ظهر لهم من توادهم فيها وتناصرهم هو أفضى بهم إلى الفوز الدائم برضوان الله، وصل به حالاً بين فيها ما يتلقاهم به من تواد فيه سبحانه تشريفاً لهم وتسكيناً لما يقتضيه ذلك المقام من الأهوال‏:‏ ‏{‏يا عباد‏}‏ أي مقولاً لهم هذا، فخص بالإضافة إليه كما خصوه بالعبادة ‏{‏لا خوف‏}‏ أي بوجه من الوجوه ‏{‏عليكم اليوم‏}‏ أي في الآخرة مما يحويه ذلك اليوم العظيم من الأهوال والأمور الشداد والزلازل ‏{‏ولا أنتم تحزنون‏}‏ أي لا يتجدد لكم حزن على شيء فات في وقت من الأوقات الآتية لأنكم لا يفوتكم شيء تسرون به‏.‏

ولما ناداهم بما يطمع فيه سائر أهل الموقف لأن كل حزب يقولون‏:‏ نحن عباده، خص المرادين بما يوئس غيرهم ولئلا يكون الوصف بالتقوى موقفاً لمن سمعه اليوم من الكفار عن الدخول وكانوا لا يستطيعون ذلك، فوصف سبحانه المتقين بما يهون الوصول إلى درجتهم على غيرهم فقال‏:‏ ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ أي أوجدوا هذه الحقيقة ‏{‏بآياتنا‏}‏ الظاهر عظمتها في نفسها أولاً وبنسبتها إلينا ثايناً ‏{‏وكانوا‏}‏ أي دائماً بما هو لهم كالجبلة والخلق ‏{‏مسلمين‏}‏ أي منقادين للأوامر والنواهي أتم انقياد، فبذلك يصلون إلى حقيقة التقوى التامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 77‏]‏

‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏ وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

ولما ذكر ما لهم بشارة لهم وترغيباً لغيرهم في اللحاق بهم على وجه فيه إجمال، شرح ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ ولما كانت الدار لا تكمل إلا بالرفيق السار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏أنتم وأزواجكم‏}‏ أي نساؤكم اللاتي كن مشاكلات لكم في الصفات، وأما قرناؤهم من الرجال فدخلوا في قوله ‏{‏كانوا مسلمين‏}‏ ‏{‏تحبرون‏}‏ أي تكرمون وتزينون فتسرون سروراً يظهر أثره عليكم مستمراً يتجدد أبداً‏.‏

ولما كان هذا أمراً سائقاً إلى حالهم سابقاً لمن كان واقفاً عنهم إلى وصالهم، أقبل على ما لعله يوقفه الاشتغال بلهو أو مال محركاً لما جهل منه، ومنبهاً على ما غفل عنه، فقال عائداً إلى الغيبة ترغيباً في التقوى‏:‏ ‏{‏يطاف عليهم‏}‏ أي المتقين الذين جعلناهم بهذا النداء ملوكاً ‏{‏بصحاف‏}‏ جمع صحفة وهي القصعة ‏{‏من ذهب‏}‏ فيها من ألوان الأطعمة والفواكه والحلوى ما لا يدخل تحت الوهم‏.‏

ولما كانت آنية الشرب في الدنيا أقل من آنية الأكل، جرى على ذلك المعهود، فعبر بجمع القلة في قوله‏:‏ ‏{‏وأكواب‏}‏ جمع كوب وهو كوز مستدير مدور الرأس لا عروة له، قد تفوق عن شيء منه اليد أو الشفقة أو يلزم منها بشاعة في شيء من دائر الكوز، وإيذاناً بأنه لا حاجة أصلاً إلى تعليق شيء لتزيد أوصافه عن أذى أو نحو ذلك‏.‏

ولما رغب فيها بهذه المغيبات، أجمل بما لا يتمالك معه عاقل عن المبادرة إلى الدخول فيما يخصها فقال‏:‏ ‏{‏وفيها‏}‏ أي الجنة‏.‏ ولما كانت اللذة محصورة في المشتهى قال تعالى‏:‏ ‏{‏ما تشتهيه الأنفس‏}‏ من الأشياء المعقولة والمسموعة والملموسة وغيرها جزاء لهم على ما منعوا أنفسهم من الشهوات في الدنيا، ولما كان ما يخص المبصرات من ذلك أعظم، خصها فقال‏:‏ ‏{‏وتلذ الأعين‏}‏ من الأشياء المبصرة التي أعلاها النظر إلى وجهه الكريم تعالى، جزاء ما تحملوه من مشاق الاشتياق‏.‏

ولما كان ذلك لا يكمل طيبه إلا بالدوام، قال عائداً إلى الخطاب لأنه أشرف وألذ مبشر لجميع المقبلين على الكتاب، والملتفت إليهم بالترغيب في هذا الثواب، بشارة لهذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بما قدمه في أول السورة وأثنائها من بلوغ قومه نهاية العقل والعلم والموصلين إلى أحسن العمل الموجب للسعادة‏:‏ ‏{‏وأنتم فيها خالدون‏}‏ لبقائها وبقاء كل ما فيها، فلا كلفة عليكم أصلاً من خوف من زوال ولا حزن من فوات‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ الجنة التي لمثلها يعمل العاملون، عطف عليه قوله مشيراً إلى فخامتها بأداة البعد‏:‏ ‏{‏وتلك الجنة‏}‏ أي العالية المقام ‏{‏التي‏}‏ ولما كان الإرث أمكن للملك، وكان مطمح النفوس إلى المكنة في الشيء مطلقاً لا يبعد، بني للمفعول قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أورثتموها‏}‏ ولما كان ما حصله الإنسان بسعيه ألذ في نفسه لسرورة بالتمتع به وبالعمل الذي كان من سببه، قال تعالى‏:‏ ‏{‏بما‏}‏ وبين أن العمل كان لهم كالجبلة التي جبلوا عليها، فالمنّة لربهم في الحقيقة بما زكى لهم أنفسهم بقوله‏:‏ ‏{‏كنتم تعملون‏}‏ أي مواظبين على ذلك لا تفترون‏.‏

ولما كان الأكل أعم الحاجات وأعم الطلبات، قال تعالى مبيناً أن جميع أكلهم تفكه ليس فيه شيء تقوتاً لأنه لا فناء فيها لقوة ولا غيرها لتحفظ بالأكل ولا ضعف ‏{‏لكم فيها فاكهة‏}‏ أي ما يؤكل تفكهاً وإن كان لحماً وخبزاً‏.‏ ولما كان ما يتفكه في الدنيا قليلاً قال تعالى‏:‏ ‏{‏كثيرة‏}‏ ودل مع الكثرة على دوام النعمة بقصد التفكه بكل شيء فيها بقوله‏:‏ ‏{‏منها‏}‏ أي لا من غيرها مما يلحظ فيه التقوت ‏{‏تأكلون‏}‏ فلا تنفد أبداً ولا تتأثر بأكل الآكلين لأنها على صفة الماء النابع، لا يؤخذ منه شيء إلا خلف مكانه مثله أو أكثر منه في الحال‏.‏

ولما ذكر ما للقسم الثاني من الإخلاء وهم المتقون ترغيباً لهم في التقوى، أتبعه ما لأضدادهم اهل القسم الأول تحذيراً من مثل أعمالهم، فقال استئنافاً مؤكداً في مقابلة إنكارهم‏:‏ ‏{‏إن المجرمين‏}‏ أي الراسخين في قطع ما أمر الله به أن يوصل ‏{‏في عذاب جهنم‏}‏ أي النار التي من شأنها لقاء داخلها بالتجهم والكراهة والعبوسة كما كان يعمل عند قطعه لأولياء الله تعالى ‏{‏خالدون‏}‏ لأن إجرامهم كان طبعاً لهم لا ينفكون عنه أصلاً ما بقوا‏.‏

ولما بين إحاطته بهم إحاطة الظرف بمظروفه، وكان من المعلوم أن النار لا تفتر عمن لابسته إلا بمفتر بمنعها بماء يصبه عليها أو تقليل من وقودها أو غير ذلك خرقاً للعادة، بين أن لا يعتريها نقصان أصلاً كما يعهد في عذاب الدنيا لأنهم هم وقودها فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا يفتر عنهم‏}‏ أي يقصد إضعافه بنوع من الضعف، فنفي التفتير نفي للفتور من غير عكس، قال البيضاوي‏:‏ وهو من فترت عنه الحمى- إذا سكنت، والتركيب للضعف‏.‏

ولما كان انتظار الفرج مما يخفف عن المتضايق، نفاه بقوله‏:‏ ‏{‏وهم فيه مبلسون *‏}‏ أي ساكتون سكوت يأس من النجاة والفرج‏.‏

ولما كان ربما ظن من لا بصيرة له أن هذا العذاب أكبر وأكثر مما يستحقونه، أجاب سبحانه بقوله ليزيد عذابهم برجوعهم باللائمة على نفسوهم ووقوعهم في منادمات الندامات‏:‏ ‏{‏وما ظلمناهم‏}‏ نوعاً من الظلم لأنه تعالى مستحيل في حقه الظلم ‏{‏ولكن كانوا‏}‏ جبلة وطبعاً وعملاً وصنعاً دائماً ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الظالمين‏}‏ لأنهم بارزوا المنعم عليهم بالعظائم ونووا أنهم لا ينفكون عن ذلك بقوا، والأعمال بالنيات، ولو كانوا يقدرون على أن لا يموتوا لما ماتوا‏.‏

ولما كان من مفهوم الإبلاس السكوت، أعلم بأن سكوتهم ليس دائماً لأن الإنسان إذا وطن نفسه على حالة واحدة ربما خف عنه بعد الألم، فقال مبيناً أنهم من البعد بمحل كبير لا يطمعون معه في خطاب الملك، وأنهم مع علمهم باليأس يعلقون آمالهم بالخلاص كما يقع للمتمنين للمحالات في الدنيا ليكون ذلك زيادة في المهم‏:‏ ‏{‏ونادوا‏}‏ ثم بين أن المنادي خازن النار فقال مؤكداً لبيان البعد بأداته‏:‏ ‏{‏يا مالك‏}‏ وقراءة «يا مال» للإشارة إلى أن العذاب أوهنهم عن إتمام الكلام، ولذا قالوا‏:‏ ‏{‏ليقض علينا‏}‏ أي سله سؤالاً حتماً أن القضاء الي لا قضاء مثله، وهو الموت على كل وحد منا، وجروا على عادتهم في الغباوة والجلافة فقالوا‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ أي المحسن إليك فلم يروا لله عليهم إحساناً وهم في تلك الحالة، فلا شك أن إحسانه ما انقطع عن موجود أصلاً، وأقل ذلك أنه لا يعذب أحداً منهم فوق استحقاقه، ولذلك جعل النار دركات كما كانت الجنة درجات، ويجوز أن تكون عبارتهم بذلك تغييظاً له بما رأوا من ملابسة النار من تأثير فيه، ونداؤهم لا ينافي إبلاسهم لأنه السكوت عن يأس، فسكوتهم المقيد باليأس دائم، فلذلك سألوا الموت، والحاصل أنهم لا يتكلمون ما يدل على رجاء الفرج بل هم ساكتون أبداً عن ذلك‏.‏

‏.‏‏.‏ اليأس لا على رجاء الفرج باللحاق برتبة المتقين‏.‏

ولما ذكر نداءهم، استأنف ذكر جوابهم بقوله‏:‏ ‏{‏قال‏}‏ أي مالك عليه الصلاة والسلام مؤكداً لأطماعهم لأن كلامهم هذا بحيث يفهم الرجاء ويفهم بأن رحمة الله تعالى التي هي موضع الرجاء خاصة بغيرهم ‏{‏إنكم ماكثون‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 83‏]‏

‏{‏لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ‏(‏78‏)‏ أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ‏(‏79‏)‏ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏80‏)‏ قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ‏(‏81‏)‏ سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ‏(‏82‏)‏ فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

ولما ذكر سبحانه الساعة عند عيسى عليه الصلاة والسلام فقال ‏{‏وإنه لعلم للساعة‏}‏ وأكد أمرها وشرح بعض أحوالها إلى أن ختم بما دل على انحلال عزائمهم ولين شكائمهم، وكانوا غير مقرين بذلك، قال مؤكداً جواباً لمن يبصر بعض البصر فيقول‏:‏ أحق هذا‏؟‏ ويتوقع الجواب‏:‏ ‏{‏لقد جئناكم‏}‏ أي في هذه السورة خصوصاً وجميع القرآن عموماً، سمى مجيء الرسل مجيئاً لهم لما لمجيئهم من العظمة التي أشارت إليها النون ‏{‏بالحق‏}‏ الكامل في الحقية، ولما كان ظهور حقيته بحيث لا يخفى على أحد ولكن شدة البغض وشدة الحب تريان الأشياء على غير ما هي عليه، قال إشارة إلى ذلك‏:‏ ‏{‏ولكن أكثركم‏}‏ أي أيها المخاطبون ‏{‏للحق كارهون *‏}‏ لما فيه من المنع عن الشهوات فلذلك أنتم تقولون‏:‏ إنه ليس بحق لأجل كراهتكم فقط، لا لأجل أن في حقيته نوعاً من الخفاء‏.‏

ولما كان هذا خبراً لا جواب فيه لظهور الدلائل وتعالي العظمة إلا الرجوع، وكان من لا يرجع إنما يريد بمحاربة الإله الأعظم، قال عادلاً عن الخطاب إنزالاً لهم بالغيبة منزلة البعيد الذي لا يلتفت إليه معادلاً لما تقديره‏:‏ أرجعوا لما ظهر لهم من الحق الظاهر ‏{‏أم أبرموا‏}‏ أي أحكموا ‏{‏أمراً‏}‏ في رد أمرنا ومعاداة أوليائنا مع علمهم بأنا مطلعون عليهم‏.‏

ولما كان سبحانه مطلعاً بطية أمرهم وغائب سرهم، سبب عما سأل عنه من إبرامهم ما دل على أنه عالم به وقد أبرم له قبل كونه ما يزيله ويعدمه ويحيله، على سبيل التأكيد لإنكارهم أن يغلبوا فقال‏:‏ ‏{‏فإنا مبرمون‏}‏ أي دائماً للأمور لعلمنا بها قبل كونها وقدرتنا واختيارنا، تلك صفتنا التي لا تحول بوجه‏:‏ العلم والقدرة والإرادة، لم يتجدد لنا شيء لم يكن‏.‏

ولما كان إصرارهم بين العزم على مجاهرة القدير بالمعاداة وبين معاملته وهو عليم بالمساترة والمماكرة في المعاداة والمباكرة والمسالمة والمناكرة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أم يحسبون أنا‏}‏ على ما لنا من العظمة المقتضية بجميع صفات الكمال ‏{‏لا نسمع‏}‏ ولما كان المراد إثبات أن علمه تعالى محيط بالخفي والجلي، نسبة كل منهما إليه على السواء، ذكرهما وقدم من شأنه أن يخفي وهو المكر المشار إليه بالإبرام، لأن السياق له فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سرهم‏}‏ أي كلامهم الخفي ولو كان في الضمائر فيما يعصينا، ولما كان ربما وقع في الأوهام أن المراد بالسمع إنما هو العلم لأن السر ما يخفى وهو يعم ما في الضمائر وهي مما يعلم، حقق أن المراد به حقيقته بقوله‏:‏ ‏{‏ونجواهم‏}‏ أي كلامهم المرتفع حتى كأنه على نجوة أي مكان عال، فعلم أن المراد حقيقة السمع، وأنه تعالى يسمع كل ما يمكن أن يسمع ولو لم يكن في قدرتنا نحن سماعه، فنكون فيه كالأصم بالنسبة إلى ما نسمعه نحن من الجهر ولا يسمعه هو لفقد قوة السمع فيه، لا لأنه مما من حقه ألا يسمع‏.‏

ولما كان إنكار عدم السماع معناه السماع، صرح به فقال‏:‏ ‏{‏بلى‏}‏ أي نسمع الصنفين كليهما على حد سواء ‏{‏ورسلنا‏}‏ وهم الحفظة من الملائكة على ما لهم من العظمة بنسبتهم إلينا‏.‏ ولما كان حضور الملائكة معنا وكتابتهم لجميع أعمالنا على وجه لا نحس به نوع أحساس أمراً هو في غاية الغرابة، قال معبراً بلدى التي يعبر بها عبر اشتداد الغرابة‏:‏ ‏{‏لديهم يكتبون‏}‏ أي يجددون الكتابة كلما تجدد ما يقتضيها لأن الكتابة أوقع في التهديد، لأن من علم أن أعماله محصاة مكتوبة تجنب ما يخاف عاقبته‏.‏

ولما تقدم أول السورة تبكيتهم والتعجيب منهم في ادعاءهم لله ولداً من الملائكة وهددهم بقوله ‏{‏ستكتب شهادتهم ويسألون‏}‏ وذكر شبههم في قولهم ‏{‏لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏}‏ وجهلهم فيها بقوله ‏{‏ما لهم بذلك من علم‏}‏ ونفى أن يكون لهم على ذلك دليل سمعي بقوله منكراً موبخاً ‏{‏أم آتيناهم كتاباً‏}‏ ومر في توهية أمرهم في ذلك وغيره بما لاحم بعضه بعضاً على ما تقدم إلى ما تمم نفي الدليل السمعي على طريق النشر المشوش بقوله تعالى ‏{‏واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا‏}‏، ونظم به ما أتى به رسوله أهل الكتاب مما يصدق ما أتى به كتابنا من التوحيد وما هدد به من أعراض عنه إلى أن أخبر أنه الحق الذي لا زوال أصلاً لشيء منه، وأن رسله سبحانه تكتب جميع أعمالهم من شهادتهم في الملائكة وغيرها، أعاد الكلام في إبطال شبهتهم في أن عبادتهم لهم لو كانت ممنوعة لم يشأها الذي له عموم الرحمة لأن عموم رحمته يمنع على زعمهم مشيئة ما هو محرم، فقال بعد أن نفى قوله ‏{‏واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا‏}‏ أن يكون لهم دليل سمعي على أحد من رسله عليهم الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏قل إن كان للرحمن‏}‏ أي العام الرحمة ‏{‏ولد‏}‏ على ما زعمتم، والمراد به الجنس لادعائهم في الملائكة، وغيرهم في غيرهم، وقراءة حمزة والكسائي بضم ثم سكون على أنه جمع على إرادة الكثرة‏.‏ ولما كان المعنى‏:‏ فأنا ما عبدت ذلك الولد ولا أعبده، ولو شاء الرحمن ما تركت عبادته، ولكنه شاء تركي لها وشاء فعلكم لها، فإحداهما قطعاً مشيئة للباطل، وإلا لاجتمع النقيضان بأن يكون الشيء حقاً باطلاً في حال واحد من وجه واحد، وهو بديهي الاستحالة، فبطلت شبهتكم بدليل قطعي- هكذا كان الأصل، ولكنه عدل عنه إلى ما يفيد معناه وزيادة أنه يعبد الله مخلصاً ولا يعبد غيره، أنه لا يستحق اسم العبادة إلا ما كان له خالصاً، فقال‏:‏ ‏{‏فأنا‏}‏ أي في الرتبة ‏{‏أول العابدين *‏}‏ للرحمن، العبادةَ التي هي العبادة ولا يستحق غيرها أن يسمى عبادة وهي الخالصة، أي فأنا لا أعبد غيره لا ولداً ولا غيره، ولم يشأ الرحمن لي أن أعبد الولد، أو يكون المعنى‏:‏ أنا أول العابدين للرحمن على وجه الإخلاص، لم أشرك به شيئاً أصلاً في وقت من الأوقات مما سميتموه ولداً أو شريكاً أو غيره، ولو شاء ما عبدته على وجه الإخلاص، ولا شك عندكم وعند غيركم أن من أخلص لأحد كان أولى من غيره برحمة، فلو أن الإخلاص له ممنوع ما شاء لي، ولولا أن عبادة غيره ممنوعة لشاءها لي، ولو أن له ولداً لشاء لي عبادته، فإن عموم رحمته لكافة خلقه لكونهم خلقه وخصوصها بي لكوني عبده خالصاً له يمنع على زعمكم من أن يشقيني وأنا أخلص له، فبطلت شبهتكم بمثلها بل أقوى منها، وهذا مما علق بشيء هو بنقيضه أولى، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن «أن» نافية بمعنى‏:‏ ما ينبغي أي ما كان له ولد، فإني أول من عبده رتبة وما علمت له ولداً، ولو كان له ولد لعلمته فعبدته تقرباً إليه بعبادة ولده‏.‏

ولما بطلت الشبهة على تقدير ببرهان، وعلى آخر بشبهة أقوى منها، وظهر الأمر واتضح الحق في أنه سبحانه يشاء لشخص فعل شيء ولآخر عدم فعل ذلك الشيء وفعل ضده أو نقيضه، ومن المعلوم قطعاً أنه لا يكون فعل النقيضين ولا الضدين في آن واحد حقاً من وجه واحد، فعرف بذلك أن العبرة في الحلال والحرام بأمره ونهيه لا بإرادته، وأنه لولا ذلك لما علم أنه فاعل بالاختيار يخص من يشاء من عباده بما يشاء بعد أن عمهم بما شاء، كان موضع التنزيه عما نسبوه إليه من الباطل، فقال منزهاً على وجه مظهر أنه لا يصح أن ينسب إليه ولد أصلاً‏:‏ ‏{‏سبحان رب‏}‏ أي مبدع ومالك ‏{‏السماوات‏}‏ ولما كان المقام للتنزيه وجهة العلوية أجدر، لأنه أبعد عن النقص والنقيض، ولم يقتض الحال إعادة لفظ الرب بخلاف ما يأتي آخر الجاثية، فإنه لإثبات الكمال ونظره إلى جميع الأشياء على حد سواء فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي اللتين كل ما فيهما ومن فيهما مقهور مربوب محتاج لا يصح أن يكون له منه سبحانه نسبة بغير العبودية بالإيجاد والتربية‏.‏

ولما كانت خاصة الملك أن يكون له ما لا يصل إليه غيره بوجه أصلاً، قال محققاً لملكه لجميع ما سواه ومن سواه وملكه له، ولم يعد العاطف لأن العرش من السماوات‏:‏ ‏{‏رب العرش‏}‏ أي المختص به لكونه خاصة الملك الذي وسع كرسيه السماوات والأرض ‏{‏عما يصفون‏}‏ من أنه له ولد أو شريك‏.‏

ولما حصحص الحق لمعت في الموجود كله أعلام الصدق بعد بطلان شبهتهم وبيان أغلوطتهم، عرف أنهم فاعلون بوضع الأشيء في غير مواضعها فعل الخائض اللاعب، فقال مسبباً عن ذلك‏:‏ ‏{‏فذرهم‏}‏ أي اتركهم على أسوأ أحوالهم ‏{‏يخوضوا‏}‏ أي يفعلوا فعل الخائض في الماء في وضع رجله التي هي عماده فيما لا يعرفه، وقد لا يرضاه لكونه لا علم له به ‏{‏ويلعبوا‏}‏ أي يفعلوا فعل اللاعب في انهماكه في فعل ما ينقصه ولا يزيده ‏{‏حتى يلاقوا‏}‏ أي يفعلوا بتصريم أعمارهم في فعل ما لا ينفعهم فعل المجتهدين في أن يلقوا ‏{‏يومهم الذي يوعدون *‏}‏ بوعد لا خلف فيه فيظهر فيه وعيدهم ويحق تهديدهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏84- 89‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏84‏)‏ وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏85‏)‏ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏86‏)‏ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏87‏)‏ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

ولما نزهه سبحانه عن الولد ودل على ذلك بأنه مالك كل شيء وملكه، وكان ذلك غير ملازم للألوهية، دل على أنه مع ذلك هو الإله لا غيره في الكونين بدليل بديهي يشترك في علمه الناس كلهم، وقدم السماء ليكون أصلاً في ذلك يتبع لأن الأرض تبع لها في غالب الأمور، فقال دالاً على أن نسبة الوجود كله إليه على حد سواء لأنه منزه عن الاحتياج إلى مكان أو زمان عاطفاً على ما تقديره‏:‏ تنزه عما نسبوه إليه الذي هو معنى ‏{‏سبحان‏}‏‏:‏ ‏{‏وهو الذي‏}‏ هو ‏{‏في السماء إله‏}‏ أي معبود لا يشرك به شيء ‏{‏وفي الأرض إله‏}‏ توجه الرغباب إليه في جميع الأحوال، ويخلص له في جميع أوقات الأضطرار، فقد وقع الإجماع من جميع من في السماء والأرض على إلهيته فثبت استحقاقه لهذه الرتبة وثبت اختصاصه باستحقاقها في الشدائد فباقي الأوقات كذلك من غير فرق لأنه لا مشارك له في مثل هذا الاستحقاق، فعبادة غيره باطلة، قال في القاموس‏:‏ أله- أي بالفتح- إلاهة وألوهة وألوهية‏:‏ عبد عبادة، ومنه‏:‏ لفظ الجلالة- وأصله‏:‏ إله بمعنى معبود وكل ما اتخذ معبوداً فهو إله عند متخذه، وأله كفرح‏:‏ تحير، فقد علم من هذا جواز تعلق الجار بإله‏.‏

ولما كان الإله لا يصلح للألوهية إلا إذا كان يضع الأشياء في محلها بحيث لا يتطرق إليه فساد، ولا يضرها إفساد مفسد، وكان لا يكون كذلك إلا بالغ العلم قال‏:‏ ‏{‏وهو الحكيم‏}‏ أي البليغ الحكمة، وهي العلم الذي لأجله وجب الحكم من قوام من أمر المحكوم عليه في عاجلته وآجلته، ولما كانت الحكمة العلم بما لأجله وجب الحكم قال تعالى‏:‏ ‏{‏العليم‏}‏ أي البالغ في علمه إلى حد لا يدخل في عقل العقلاء أكثر من وصفه به على طريق المبالغة ولو وسعوا أفكارهم وأطالوا أنظارهم لأنه ليس كمثله شيء في ذاته ولا صفة من صفاته ليقاس به، وكل من ادعى فيه أنه شريك له لا يقدر من أشرك به أن يدعي له ما وصف به من الإجماع على ألوهيته ومن كمال علمه وحكمه، فثبت قطعاً ببطلان الشركة بوجه يفهمه كل أحد، فلا خلاص حينئذ إن خالف كائناً من كان، وإذا قد صح أنه الإله وحده وأنه منزه عن شريك وولد وكل شائبة نقص كان بحيث لا يخاف وعيده، فلا يخوض ولا يعلب عبده، ومن خاض منهم أو لعب فلا يلومن إلا نفسه، فإن عمله محفوظ بعلمه فهو مجاز عليه بحكمته‏.‏

ولما نزه ذاته الأقدس وأثبت لنفسه استحقاق الإلهية بالإجماع من خلقه بما ركزه في فطرهم وهداهم إليه بعقولهم، أتبع ذلك أدلة أخرى بإثبات كل كمال بما تسعه العقول وبما لا تسعه مصرحاً بالملك فقال‏:‏ ‏{‏وتبارك‏}‏ أي ثبت ثباتاً لا يشبهه ثبات لأنه لا زوال مع التيمن والبركة وكل كمال، فلا تشبيه له حتى يدعي أنه ولد له أو شريك، ثم وصفه بما يبين تباركه واختصاصه بالإلهية فقال‏:‏ ‏{‏الذي له ملك السماوات‏}‏ أي كلها ‏{‏والأرض‏}‏ كذلك ‏{‏وما بينهما‏}‏ وبين كل اثنين منها، والدليل على هذا الإجماع القائم على توحيده عند الاضطرار‏.‏

لما ثبت اختصاصه بالملك وكان الملك لا يكون إلا عالماً بملكه وكان ربما ادعى مدع وتكذب معاند في الملك أو العلم، قطع الأطماع بقوله‏:‏ ‏{‏وعنده‏}‏ أي وحده ‏{‏علم الساعة‏}‏ سائقاً له مساق ما هو معلوم الكون، لا مجال للخلاف فيه إشارة إلى ما عليها من الأدلة القطعية المركوزة في الفطرة الأولى فكيف يما يؤدي إليه الفكر من الذكر المنبه عليه السمع، ولأن من ثبت اختصاصه بالملك وجب قبول أخباره لذاته، وخوفاً من سطواته، ورجاء في بركاته ‏{‏وإليه‏}‏ أي وحده لا إلى غيره بعد قيام الساعة ‏{‏ترجعون‏}‏ بأيسر أمر تحقيقاً لملكه وقطعاً للنزاع في وحدانيته، وقراءة الجماعة وهم من عدا ابن كثير وحمزة والكسائي وورش عن يعقوب بالخطاب أشد تهديداً من قراءة الباقين بالغيب، وأدل على تناهي الغضب على من لا يقبل إليه بالمتاب بعد رفع كل ما يمكن أن يتسبب عنه ارتياب‏.‏

ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير‏:‏ فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يملك‏}‏ أي بوجه من الوجوه في وقت ما ‏{‏الذين يدعون‏}‏ أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من دونه‏}‏ من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم ‏{‏الشفاعة‏}‏ أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم ‏{‏إلا من شهد‏}‏ أي منهم ‏{‏بالحق‏}‏‏.‏ أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى‏.‏

ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى الله، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك، فكأنه لا علم لهم قال‏:‏ ‏{‏وهم‏}‏ أو والحال أن من شهد ‏{‏يعلمون‏}‏ أي على بصيرة مما شهدوا به، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشكروا، أو يكون المعنى‏:‏ وهم من أهل العلم، والأصنام ليسوا كذلك، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين على كل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله، قال الرازي في اللوامع‏:‏ وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد، وقد يكون مخالطاً للعدد، وقد يكون ملازماً للعدد، والله تعالى منزه عن هذه الواحدات- انتهى‏.‏

ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات، فإذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذلك يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم، وذلك ينتج الانسلاخ من العلم المؤهل للشفاعة، وقال ابن الجوزي‏:‏ وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به‏.‏

ولما كان التقدير لتقرير وجود إلهيته في الأرض بالاجتماع‏:‏ فلئن سألتهم من ينجيهم في وقت كروبهم ليقولن‏:‏ الله، ليس لمن ندعوه من دونه هناك فعل، فقال عطفاً عليه‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم‏}‏ أي الكفار ‏{‏من خلقهم‏}‏ أي العابدين والمعبودين معاً، أجابوا بما يدل على عمى القلب الحقيقي المجبول عليه والمطبوع بطابع الحكمة الإلهية عليه، ولم يصدقوا في جواب مثله بقوله‏:‏ ‏{‏إذ سألتهم‏}‏‏:‏ ‏{‏ليقولن الله‏}‏ الذي له جميع صفات الكمال هو الذي خلق الكل ليس لمن يدعوه منه شيء، ولذلك سبب عنه قوله‏:‏ ‏{‏فأنّى‏}‏ أي كيف ومن أي جهة بعد أن أثبتوا له الخلق والأمر ‏{‏يؤفكون *‏}‏ أي يقلبون عن وجوه الأمور إلى أقفائها من قالب ما كائناً من كان، فيدعون أن له شريكاً تارة بالولدية، وتارة بغيرها، مع ما ركز في فطرهم مما ثبت به أنه لا شريك له لأن له الخلق والأمر كله‏.‏

ولما أبطل سبحانه شبهتهم ووهى غاية التوهية أمرهم في شركهم وادعائهم الولد وغير ذلك مما تضمنته أقوالهم الفاسدة المنسوبة إليهم في هذه السورة، وأقام حجج الحق، ونصب براهين الصدق، وأُبت ما ينفعهم، وحذرهم ما يضرهم، حتى ختم ذلك بقوله مقسماً مع جلالة قدره وعظم أمره ‏{‏لقد جئناكم بالحق‏}‏ ثم حصر أمرهم في رد ذلك إن ردوه إلى قسمين في حالين‏:‏ حال مجاهرة وحال مماكرة، وأخبر أنه لا نجاة لهم على حالة منهما، وأخبر أن رسله تعالى يكتبون جميع أمورهم، ذلك مع غناه عن ذلك لعلمه بما يكتبونه من ذلك وغيره مما لا يطلعون، عليه، فكان ذلك فخراً عظيماً ملاحماً أشد الملاحمة لما قدمه من شبهتهم في ادعاء الولد فأكد إبطالها وحقق زوالها، وختم بالتعجيب من حالهم في تركهم وجوه الأمور واتباعهم أقفائها، وكان من جملة ذلك عملهم عمل من يظن أن الله سبحانه لا يسمع قولهم الموجب لأخذهم وقول رسوله‏:‏ الموجب لنصره، عطف على ما مضى من إنكارهم عليهم عدم سماعه لقولهم، ولما كان اشتدادهم في تكذيبهم ومباعدتهم وعنادهم لا يزداد بمرور الزمان إلا قوة أوقع في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم أسفاً ورقة وشفقة عليهم وعطفاً، وصار يشكو أمرهم إلى ربه شكوى المضطر سراً وعلناً إرادة التيسير في أمرهم والتهوين لشأنهم، فاختير للتعبير عن هذا المعنى مصدر «قال» المشترك لفظه مع لفظ الماضي المبني للمجهول إشارة إلى أن شكواه بذلك كأنها صارت أمراً ضرورياً له لا اختيار له في قوله فكأنه صار قولاً من غير قائل أو من غير قصد، لأنه صار حالاً من الأحوال، ووصل به الضمير من غير تقدم ذكر، إشارة إلى أن ضميره قد امتلأ بتلك الشفقة عليهم والرحمة لهم، فقال تعالى عطفاً على سرهم المقدر بعد ‏{‏بلى‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى‏}‏ أو يكون معطوفاً على محل الساعة أي «ويعلم قيله» قاله الزجاج، وعدل في هذا الوجه- وهو قراءة عاصم له وحمزة بالجر فإنه ظاهر في تعلقه بذلك لعطفه على لفظ ‏{‏الساعة‏}‏، وقرئ شاذاً بالرفع، ووجهه أن الواو للحال، أي كيف يصرفون عن اتباع رسولنا الآمر لهم بتوحيدنا في العبادة كما أنا توحدنا بالخلق والحال أن قيله كذا في شكايتهم، أفيظنون أنا لا ننصره وقد أرسلناه‏:‏ ‏{‏وقيله‏}‏ الذي صار في ملازمته وعدم انفكاكه حالاً من الأحوال، الدال على وجه قيله وانكسار نفسه بما دلت عليه كسرة المصدر وياؤه المجانسة لها، والتعبير بقوله‏:‏ ‏{‏يا رب‏}‏ دال على ذلك بما تفيده «يا» الدالة على بعد، أو تقديره، والرب الدال على الإحسان والعطف والشفقة والتدبير والسيادة الاختصاص والولاية، وذلك على غير العادة في دعاء المقربين، فإنها جارية في القرآن بإسقاط أداة النداء‏.‏

ولما كان الإرسال إليهم- والمرسل قادر- مقتضياً لإيمانهم، أكد ما ظهر له من حالهم بقوله زيادة في التحسر وإشارة إلى أن تأخير أمرهم يدل على أن إيمانهم مطموع فيه‏:‏ ‏{‏إن هؤلاء‏}‏ لم يضفهم إلى نفسه بأن يقول‏:‏ قومي، ونحو ذلك من العبارات ولا سماهم باسم قبيلتهم لما ساءه من حالهم، وأتى بهاء المنبهة قبل اسم على غير عادة الأصل إشارة إلى أن استشعر من نفسه بعداً استصغاراً لها واحتقاراً ‏{‏قوم‏}‏ أي أقوياء على الباطل ‏{‏لا يؤمنون‏}‏ أي لا يتجدد منهم هذا الفعل‏.‏

ولما كان هذا قولاً دالاً على غاية ما يكون من بلوغ الجهد، تسبب عنه ما يسره بإيمانهم وبلوغهم الرتب العالية التي هي نتيجة ما كان مترجى لهم أول السورة، وذلك كله ببركته صلى الله عليه وسلم في سياق ظاهره التهديد وباطنه- بالنسبة إلى علمه- البشارة بالتشديد فقال‏:‏ ‏{‏فاصفح عنهم‏}‏ أي اعف عمن أعرض منهم صفحاً فلا تلتفت إليهم بغير التبليغ ‏{‏وقل‏}‏ أي لهم‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ أي شأني الآن متاركتكم بسلامتكم مني وسلامتي منكم ‏{‏فسوف يعلمون‏}‏ بوعد لا خلف فيه، فهذا ظاهره تهديد كبير، وقراءة المدنيين وابن عامر بالخطاب أشد تهديداً، وباطنه من التعبير بالصفح عنهم والسلام بشارة لأنهم يصيرون علماء فيفوقون الأمم في العلم بعد أن يفوقهم في العقل- بما أفهمه أول السورة- فيعلون الأمم في المشي على مناهيج العقل، فللّه دره من آخر عانق الأول، ومقطع رد إلى المطلع تنزل، يا ناظم اللآلئ‏!‏ أين تذهب عن هذا البناء العالي، وتغفل عن هذا الجوهر الرخص الغالي، وتضل عن هذا الضياء اللامع الملألئ، ثم أعلاه فأنزله، وأغلاه بدر المعاني وفضله‏.‏

سورة الدخان

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ‏(‏2‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ‏(‏3‏)‏ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ‏(‏4‏)‏ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ‏(‏5‏)‏ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏6‏)‏ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ‏(‏7‏)‏ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

فقال‏:‏ ‏{‏والكتاب‏}‏ أي الجامع لكل خير ‏{‏المبين *‏}‏ أي البين في نفسه، الموضح لما تقدم من دقيق البشارة لأهل الصفاء والبصارة، واضح النذارة بصريح العبارة، وغير ذلك من كل ما يراد منه، ولأجل ما ذكر من الاستبعاد أكد جواب القسم وأتى به في مظهر العظمة فقال‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ‏{‏أنزلناه‏}‏ أي الكتاب إما جميعاً إلى بيت العزة في سماء الدنيا أو ابتدأنا إنزاله إلى الأرض ‏{‏في ليلة مباركة‏}‏ أي ليلة القدر- قاله ابن عباس رضي الله عنهما أو النصف من شعبان، فلذلك يتأثر عنه من التأثيرات ما لم تحط به الأفهام في الدين والدنيا، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري‏:‏ ينزل إلى سماء الدنيا كل سنة بمقدار ما كان جبريل عليه السلام ينزله على الرسول صلى الله عليه وسلم في تلك السنة وسماها ‏{‏مباركة‏}‏ لأنها ليلة افتتاح الوصلة وأشد الليالي بركة يكون العبد فيها حاضراً بقلبه مشاهداً لربه، يتنعم فيها بأنوار الوصلة ويجد فيها نسيم القربة، وقال الرازي في اللوامع‏:‏ وأعظم الليالي بركة ما كوشف فيها بحقائق الأشياء‏.‏

ولما كان هذا موضحاً لما لوح به آخر تلك من البشارة في ظاهر النذارة، علل الإنزال أو استأنف ما فيه من واضح النذارة الموصل إلى المعاني المقتضية للبشارة، فقال مؤكداً لأجل تكذيبهم‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي على ما نحن عليه من الجلال ‏{‏كنا‏}‏ بما لنا من العظمة دائماً لعبادنا ‏{‏منذرين *‏}‏ لا نؤاخذهم من غير إنذار، فلأجل رحمتنا لهؤلاء القوم وهم أرق الناس طبعاً وأصفاهم قلوباً وأوعاهم سمعاً نوصلهم بما هيأناهم به من ذلك إلى ما لم يصل غيرهم إليه ولم يقاربه من المعالي في الأخلاق والشمائل والاكتساب لجميع الفضائل‏.‏

وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير‏:‏ لما تضمنت سورة حم السجدة وسورة الشورى من ذكر الكتاب العزيز ما قد أشير إليه مما لم تنطو سورة غافر على شيء منه، وحصل من مجموع ذلك الإعلام بتنزيله من عند الله وتفصيله وكونه قرآناً عربياً إلى ما ذكر تعالى من خصائصه إلى قوله ‏{‏وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 44‏]‏ وتعلق الكلام بعد هذا بعضه ببعض إلى آخر السورة، افتتح تعالى سورة الدخان بما يكمل ذلك الغرض، وهو التعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا فقال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة مباركة‏}‏ ثم ذكر من فضلها فقال ‏{‏فيها يفرق كل أمر حكيم‏}‏ فحصل وصف الكتاب بخصائصه والتعريف بوقت إنزاله إلى سماء الدنيا وتقدم الأهم من ذلك في السورتين قبل، وتأخر التعريف بوقت إنزاله إلى السماء الدنيا إذ ليس في التأكيد كالمتقدم، ثم وقع إثر هذا تفصيل وعيد قد أجمل في قوله تعالى ‏{‏فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون‏}‏ وما تقدمه من قوله ‏{‏أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون‏}‏ وقوله سبحانه ‏{‏أم يحسبون أنا نسمع سرهم ونجواهم‏}‏ وتنزيهه سبحانه وتعالى نفسه عن عظيم افترائهم في جعلهم الشريك والولد- إلى آخر السورة، ففصل بعض ما أجملته هذه الآي في قوله تعالى في صدر سورة الدخان ‏{‏فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين‏}‏ وقوله تعالى ‏{‏يوم نبطش البطشة الكبرى‏}‏، والإشارة إلى يوم بدر، ثم ذكر شأن غيرهم في هذا وهلاكهم بسوء ما ارتكبوا ليشعروا أن لا فارق إن هم عقلوا واعتبروا، ثم عرض بقرنهم في مقالته ما بين لابتيها أعز مني ولا أكرم، ثم ذكر تعالى‏:‏ ‏{‏شجرة الزقوم‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ذق إنك أنت العزيز الكريم‏}‏ والتحم هذا كله التحاماً يبهر العقول، ثم اتبع بذكر حال المتقين جرياً على المطرد من شفع الترغيب والترهيب ليبين حال الفريقين وينتج علم الواضح من الطريقين، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون‏}‏ وقد أخبره مع بيان الأمر ووضوحه أنه ‏{‏إنما يتذكر من يخشى‏}‏ ثم قال ‏{‏فارتقب‏}‏ وعدك ووعيدهم ‏{‏إنهم مرتقبون‏}‏‏.‏

ولما وصف ليلة إنزال هذا القرآن بالبركة، وأعلم أن من أعظم بركتها النذارة، وكانت النذارة مع أنها فرقت من البشارة أمراً عظيماً موجباً لفرقان ما بين المحاسن والمساوئ من الأعمال قائدة إلى كل خير بدليل أن أتباع ذوي البركة من العلماء، وإذا تعارض عندهم أمر العالم والظالم، قدموا أمر الظالم لما يخافون من نذارته، وأهملوا أمر العالم وإن عظم الرجاء لبشارته، قال معللاً لبركتها بعد تعليل الإنزال فيها، ومعمماً لها يحصل فيها من بركات التفضيل‏:‏ ‏{‏فيها‏}‏ أي الليلة المباركة سواء قلنا‏:‏ إنها ليلة القدر أو ليلة النصف أصالة أو مآلاً ‏{‏يفرق‏}‏ أي ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة ‏{‏كل أمر حكيم *‏}‏ أي محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحى به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياً في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال البغوي رحمه الله‏:‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر، والأرزاق والآجال، قال‏:‏ وروى أبو الضحى عنه أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان فيسلمها إلى أربابها في ليلة القدر‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ فيسلمها إلى إلى أربابها وعملها من الملائكة ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان‏.‏

ولما كان هذا مفهماً لأمور لا حصر لها، بين أنه لا كلفة عليه سبحانه فيه، ولا تجدد عنده في وقت من الأوقات لشيء لم يكن قبل إلا تعليق القدرة على وفق الإرادة، فقال مؤكداً لفخامة ما تضمنه وصفه بأنه حكيم‏:‏ ‏{‏أمراً‏}‏ أي حال كون هذا كله مع انتشاره وعدم انحصاره أمراً عظيماً جداً واحداً لا تعدد فيه دبرناه في الأزل وقررناه وأتقناه واخترناه ليوجد في أوقاته بتقدير، ويبرز على ما له من الإحكام في أحيانه في أقل من لمح البصر، ودل على أنه ليس مستغرقاً لما تحت قدرته سبحانه بإثبات الجار فقال‏:‏ ‏{‏من عندنا‏}‏ أي من العاديات والخوارق وما وراءها‏.‏

ولما بين حال الفرقان الذي من جملته الإنذار، علله بقوله مؤكداً لما لهم من الإنكار‏:‏ ‏{‏إنا‏}‏ أي بما لنا من أوصاف الكمال وكمال العظمة ‏{‏كنا‏}‏ أي أزلاً وأبداً ‏{‏مرسلين *‏}‏ أي لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد، لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس، فلا يكون لأحد على الله حجة بعد الرسل، وهذا الكلام المنتظم والقول الملتحم بعضه ببعض، المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم تنزل صحيفة ولا كتاب إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها كما بينته في كتابي «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور» وكذا قوله في سورة القدر ‏{‏تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر‏}‏ فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمور الحكيمة، وبين سبحانه حال الرسالات بقوله‏:‏ ‏{‏رحمة‏}‏ وعدل لأجل ما اقتضاه التعبير بالرحمة عما كان من أسلوب التكلم بالعظمة من قوله «منا» إلى قوله‏:‏ ‏{‏من ربك‏}‏ أي المحسن إليك بإرسالك وإرسال كل نبي مضى من قبلك، فإن رسالاتهم كانت لبث الأنوار في العباد، وتمهيد الشرائع في العباد، حتى استنارت القلوب، واطمأنت النفوس، بما صارت تعهد من شرع الشرائع وتوطئة الأديان، فتسهلت طرق الرب لتعميم رسالتك حتى ملأت أنوارك الآفاق، فكنت نتيجة كل من تقدمك من الرفاق‏.‏

ولما كانت الرسالة لا بد فيها من السمع والعلم، قال‏:‏ ‏{‏إنه هو‏}‏ أي وحده ‏{‏السميع‏}‏ أي فهو الحي المريد ‏{‏العليم *‏}‏ فهو القدير البصير المتكلم، يسمع ما يقوله رسله وما يقال لهم، وكل ما يمكن أن يسمع وإن كان بحيث لا يسمعه غيره من الكلام النفسي وغيره الذي هو بالنسبة إلى سمعنا كنسبة ما تسمعه من الكلام إلى سمع الأصم وسمعه ليس كأسماعنا، بل هو متعلق بالمسموعات على ما هي عليه قبل وجودها كما أن علمه متعلق بالمعلومات كما هي قبل كونها‏.‏

ولما ذكر إنزال الكتاب على تلك الحال العظيمة البركة لأجل الإرسال، وبين أن معظم ثمرة الإرسال الإنذار لما للمرسل إليهم من أنفسهم من التوراة، دل على ذلك من التدبير المحكم الذي اقتضته حكمة التربية فقال‏:‏ ‏{‏رب‏}‏ أي مالك ومنشئ ومدبر ‏{‏السماوات‏}‏ أي جميع الأجرام العلوية ‏{‏والأرض‏}‏ وما فيها ‏{‏وما بينهما‏}‏ مما تشاهدون من هذا الفضاء، وما فيه من الهواء وغيره، مما تعلمون من اكتساب العباد، وغيرهما مما لا تعلمون، ومن المعلوم أنه ذو العرش والكرسي فعلم بهذا أنه مالك الملك كله‏.‏

ولما كانوا مقرين بهذا الربوبية ويأنفون من وصفهم بأنهم غير محققين لشيء يعترفون به، أشار إلى ما يلزمهم بهذا الإقرار إن كانوا كما يزعمون من التحقيق فقال‏:‏ ‏{‏إن كنتم موقنين *‏}‏ أي إن كان لكم إيقان بأنه الخالق لما ركز في غرائزكم وجبلاتكم رسوخ العلم الصافي السالم عن شوائب الأكدار من حظوظ النفوس وعوائق العلائق، فأنتم تعلمون أنه لا بد لهذه الأجرام الكثيفة جداً المتعالي بعضها عن بعض بلا ممسك تشاهدونه مع تغير كل منها بأنواع الغير من رب، وأنه لا يكون وهي على هذا النظام إلا وهو كامل العلم شامل القدرة، مختار في تدبيره، حكيم في شأنه كله وجميع تقديره، وأنه لا يجوز في الحكمة أن يدع من فيها من العلماء العقلاء الذين هم خلاصة ما فيهما هملاً يبغي بعضهم على بعض من غير رسول معلم بأوامره، وأحكامه وزواجره، منبه لهم على أنه ما خلق هذا الخلق كله إلا لأجلهم، ليحذروا سطواته ويقيدوا بالشكر على ما حباهم به من أنواع هباته‏.‏

ولما ثبت بهذا النظر الصافي ربوبيته، وبعدم اختلال التدبير على طول الزمان وحدانيته، وبعدم الجري على نظام واحد من كل وجه فعله بالاختيار وقدرته، صرح بذلك منبهاً لهم على أن النظر الصحيح أنتج ذلك ولا بد فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لا إله إلا هو‏}‏ أي وإلا لنازعه في أمرهما أو بعضه منازع، أو أمكن أن ينازع فيكون محتاجاً لا محالة، وإلا لدفع عنه من يمكن نزعه له وخلافه إياه، فلا يكون صالحاً للتدبير والقهر لكل من يخالف رسله والإيحاء لكل من يوافقهم على مر الزمان وتطاول الدهر ومد الحدثان على نظام مستمر، وحال ثابت مستقر‏.‏

ولما ثبت أنه لا مدبر للوجود غيره، ثبت قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يحيى ويميت‏}‏ لأن ذلك من أجل ما فيهما من التدبير، وهو تنبيه على تمام دليل الوحدانية لأنه لا شيء ممن فيهما يبقى ليسند التدبير إليه، ويحال شيء من الأمور عليه، فهما جملتان‏:‏ الأولى نافية لما أثبتوه من الشركة، والثانية مثبتة لما نفوه من البعث‏.‏

ولما ثبت أنه المختص بالإفاضة والسلب، وكان السلب أدل على القهر، ذكرهم ما لهم من ذلك في أنفسهم فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏ربكم‏}‏ أي الذي أفاض عليكم ما تشاهدون من النعم في الأرواح وغيرها ‏{‏ورب آبائكم‏}‏ ولما كانوا يشاهدون من ربوبيته لأقرب آبائهم ما يشاهدون لأنفسهم، رقي نظرهم إلى النهاية فقال‏:‏ ‏{‏الأولين *‏}‏ أي الذين أفاض عليهم ما أفاض عليكم ثم سلبهم ذلك كما تعلمون، فلم يقدر أحد منهم على ممانعة ولا طمع في منازعة بنوع مدافعة‏.‏